جلست تلملم بقايا الروح المتناثرة هنا و هناك ؛ تتذكر الماضي البعيد و تحاول نسيان الجروح الغائرة في القلب.تنهدت بعمق و اسندت راسها الى الحائط و شريط الذكريات يمر امامها..
سنين طويلة انقضت منذ ذلك الوقت.سنين طويلة نست فيها نفسها او حاولت ان تتناسى.
و ما هي الا لحظات حتى غرقت في دوامة الذكرى ؛ كانها طوت السنين طيّا و عادت من جديد ابنة العشرين عاما.
و هي في ريعان شبابها كانت فراشة فتية تحوم وسط بساتين الحياة و الكل يمدح فيها و في ذكاءها ..
اعتادت على ان تحتلّ الصدارة في كل ما تفعله و عشقت الدراسة و اصبحت شديدة التمسك بالكتب.كانت هوايتها القراءة و صديقها القلم..
و تعودت صديقاتها ان تحمل لهم كل فينة و اخرى قصصا جميلة تكتبها من وحي خيالها ؛تقراها على مسامعهن و هنّ متجمّعات حولها ؛ و سابحات في بحور كلماتها.
كانت بثينة الاولى في مدرستها ؛ احبها اساتذتها لنشاطها الغير معتاد و لسرعة بديهتها و ذكاءها ...و كانت تكتب اشعارا و قصصا يقراها استاذ اللغة العربية فيبهر بها و يتنبأ لها بمستقبل واعد..
و تمضي الايام على بثينة لتجد نفسها في السنة الاخيرة من دراستها ؛ تستعد لامتحانات آخر السنة و التي من خلالها ستطأ صرح كلية الطب التي كانت تحلم دوما بها.
سهرت الليالي و لم تشكو ابدا تعبا او قلة حيلة ؛ كان كل امانيها ان تصبح في يوم ما دكتورة ..و شجعها صديقاتها و اساتذتها..و جاء يوم الامتحان..سارت بخطى ثابتة ؛ يحذوها الامل و تلازمها الثقة ؛ فهي توقن ان جهدها لن يضيعه الله و ان ثمرة هذا العمل المتواصل لا بد ان تكلّل بالنجاح..
استغرب الكل منها ؛ ابتسامتها لم تفارق محياها لحظة ؛ و بعد ان انهت امتحاناتها ؛ عادت الى البيت و هي تطير فرحا و كلها ثقة بالنتيجة الحتمية لايجاباتها ..
و مرت الايام و هي تهيا نفسها لدخول عالم آخر ؛ عالم الطب الذي طالما تاهت في ثناياه و غاصت في خباياه..
و حين ظهرت النتائج اسرعت الى الثانوية لتشارك فرحتها مع صديقاتها ؛ حين وصلت كانت الوجوه جاهمة ؛ ضحكت برقة و قالت (ما بكن ؛ الم تنجحن ؟ اكيد الفرحة اقوى من انكن تستحملنها ) ثم اقتربت من القائمة و جالت بنظراتها تبحث عن اسمها ؛ مرات و مرات و لكن دون جدوى...
اصابها ذهول عارم و لكنها استجمعت قواها لتعود الى البيت و هي متاكدة ان خطا ما قد حدث.
حين دخلت منزلها كان الكل في انتظارها و خاصة والدها..لم تستطع ان ترفع عيناها و انفجرت باكية ؛ و هي تقسم لهم ان شيئا ما حدث..اصيب والديها بخيبة امل كبيرة ؛ كان والدها محبا للعلم ؛يبذل كل ما اوتي لتعليمها ..
صرخ اخوها الكبير في وجهها متهما اياها بالاهمال و عدم التركيز و حاولت هي الدفاع عن نفسها و لكن لم تكن لكلمتها اية قيمة امام كلماته هو لانه طبيب و يعرف الكثير و كلامه مسموع و مطاع..
جلس هو و زوجته في ردهة البيت مع ابيها و سمما افكاره باتهامات زائفة و جعلاه يعتقد انها اهملت دروسها و تنكّرت لرغبته الملّحة..و لم تملك هي الا الدموع تداوي بها هذه القسوة المستفحلة في حقها..
و مرت ايامها و لياليها كئيبة ؛ حزينة لم تنعم فيهم براحة بال او طيب عيش..الى ان كان يوم دق جرس الهاتف..و جاءت اختها مسرعة اليها ( بثينة انها مديرة المدرسة )
هرولت بثينة بكل قوتها لتجيب على الهاتف و لم تصدق ما سمعته حين اخبرتها المديرة ان خطا جسيما وقع في ملفها و انها نجحت بتقدير جيد جدا يدخلها اي كلية تشاء..
جنّ جنونها و ركضت الى والدها و اخبرته بالامر و الكلمات تخرج مشوهة من فمها من فرط سعادتها..احست للحظات قليلة انها ارتاحت من كابوس كان يكتم انفاسها و يسحبها الى دائرة سوداء توشك ان تخنقها..
نامت ليلتها تلك كما لم تنم في حياتها ؛ دست راسها في وسادتها و اطلقت العنان الى احلامها الوردية تاخدها الى ابعد الاماكن و اجمل الاحاسيس.
لم تكن تعلم ان الدهر يحيك لها من خيوطه شباكا سرعان ما تكبت احلامها و عنفوان صباها.
و لعبت زوجة الاخ لعبتها بدهاء و مكر ؛ و اقنعت زوجها ان بثينة فتاة صغيرة و ان دخولها الى الكلية سيجعلها تنغمس في الانحراف و يدفعها الى السقوط بيد الشبان المستهترين..و لان اخاها كان ضعيفة الشخصية وافق على كلام زوجته و سارع الى والده ينصحه بان يبعدها عن دخول الكلية بل و يفرض عليها البقاء في البيت.
صحت بثينة على واقع مرير ؛ اخ لا يرحم و والد لا يفهم ؛ لم يستمع احد الى توسلاتها و لم يهتم احد بدموعها ...و نفيت من مساحة هي احق بها ؛ و حرمت من ان تختار ما تفعله في مستقبلها...
ظلموها و لم يعيروها اهتماما ؛ لكنها لم تفهم ابدا كيف لطبيب و طالب علم ان يتصرف هكذا...وأدوا احلامها و خنقوا صرخاتها بالنكران...
سجنوها في البيت و حاصروا افكارها ؛ فبعد الاحلام الكبيرة صارت كل ما تتمناه ان تنكسر قيودها و تجد مخرجا مما هي فيه...لم يعد مقدر لها ان تكون ما احبت ان تكون و لم يعد مسموح لها ان تتنفّس طموحاتها و ان تسهر على بلوغها و بعبارة ادق لقد صادروها دون استئذان.
و فجاة قطع عليها شريط ذكرياتها الاليمة صوت ابنتها و هي تناديها ( امي ؛ لقد تاخّر الوقت و لازلت ساهرة )
هزت راسها كانها تريد ان تطرد ما علق به من مآسي ( و انت ؛ لماذا ما زلت مستيقظة حبيبتي )
اجابتها الفتاة الوسيمة بابتسامة ( انسيتي امي ؛ غدا امتحاناتي الاخيرة في كلية الطب )
تنفّست الام الصعداء و هي ترى احلامها تتحقّق في ابنتها ...من حرموها الحق قديما لن يتمكنوا ان يحرموا ابنتها من النجاح...ايتسمت ابتسامة الرضى لانها و رغم كل ما عانته ؛ استطاعت بفضل المولى ان تغرس في ابنتها حب ما حرمت منه و ها هي اليوم تجني ثمار الصّمود و التحدي....
من عمق الواقع المّر اخترت لكم قصتي ...ذبذبات بين السقوط في الهاوية و التشبّث بخيوط الامل الرفيعة..
و صراع بين قتل المواهب و زرع بذور النجاح..
احلامنا ليست مستحيلة طالما نرويها بكل قطرة من تضحياتنا ...و الاماني ممكنة حين يصبح لرب الخلق يد في اعادة ما خربشته يد الانسان الى وضعها الصحيح..
و بين امّ محرومة و ابنتها المرتوية من بئر الحب و الحنان قصة اخرى عن الكفاح المتواصل من اجل ان يكون لنا وجود يرضينا في الحياة...لا استسلام طالما وجدت الارادة التي تصنع المعجزات و التحدي الذي يدفعنا الى ابعد الحدود...
لا استسلام طالما لنا رب رحيم ؛ ما يمنعنا شيئا الا اعطانا اشياء..
لا استسلام ما دامت قلوبنا تنبض بالحياة و عقولنا تنعم بالصفاء..
فبين براثين الضياع يولد فجر الانتصار على قيود القهر و الجهل..
فلنكن بثينة التي صنعت من حرمانها جسرا عبرته الى الضفة الاخرى لتجعل من ابنتها ناجحة بك