أنشودة الغرباء
للكاتب: يوسف إدريس
"الليلة من ليالي الشتاء * .. ليلة عجوز شمطاء، البرد يكاد يمتص كل ما على وجه البسيطة، برد قارس كئيب يفوح منه رائحة الفناء، وتهب نسائمه فتلفح الوجوه التي أنهكها سعي النهار واحتواها ظلام الليل، فتهرب منها الدماء مخلفة وراءها صفرة، تقشعر لها الجلود المنهكة.
لم يسع (المعلم) عمر الا أن يقفل باب (القهوة)، ليمنع النسائم التي اعتصرها البرد والظلام أن تدلف إلى المكان، ولكنه عاد ليفتحه قليلاً عله يلتقط هارباً من جحيم البرودة، ثم تربع على أريكته ومضى يتأمل (زبائنه) بعينه نصف المغمضة وقد استقرت خلف إطار عتيق من الأهداب، وبوجهه الأسمر تلك السمرة التي لا يفصلها عن السواد إلا غلالة شفافة، وبملامحه التي يصبغها طابع من الغموض..غموض قد تخف وطأته، فتلمح فيه اشمئزازاً من حياته.. وقد يزداد غموضاً فلا يفصله عن سمرته الا غلالة شفافة.. لم يكن يزيد عن الخمسين؛ ولكن تجاعيد وجهه كانت تنطق بأن ثمة أحداثاً هائلة قد عبثت بكيانه.
عبث (جاويش) المطافئ الذي كانت أشرطته وسلطته مضرب الأمثال، في شاربه، وهو يروي لنا مغامراته التي يعتز بها في قيادة السيارات والتي انتهت بساق من ساقيه ذهبت مع تيار الحياة، الدافق وكانت حنجرته الجوفاء البارزة من عنقه، تضفي رنة عجيبة تمده بسلاح قوي للتأثير على سامعيه، كنت أعرف أنه كثيراً ما يخلط الواقع بما يتمتع به من خيال خصب، ولكن ذلك لم يمنعنا من الإعجاب بخياله قدر إعجابنا بحقيقة أفعاله وهذا إبراهيم.. أو أبو خليل كما كنا نناديه دائما حتى اندثر لفظ إبراهيم فأصبح ينافس الحذاء القديم الذي يرتديه، وجلبابه الذي تناثرت فيه الرقع، ومعطفه الأصفر العتيق، وعمامته التي حال لونها من كثرة ما حملت من أقذار..
ومع ذلك فقد كان قريباً إلى نفوسنا جميعاً، كان يتكلم فنصمت مصغين، ففي صوته رنة حزينة عميقة تأمرك بالإنصات، كان كلامه كنغمات ناي قديم تنساب في ليلة ظلماء أو كانبثاق دمعة من دموعه يذرفها على (أمينة) التي أضاع من أجلها عشرة فدادين ثم أفاق من غفوته، ليجد نفسه فقاعة دفع بها الموج إلى الشاطئ حيث لا أمينة ولا فدادين.
أما حسن بك فقد كان مكتئباً هذا المساء، أهو جيبه قد عمر مرة أخرى بالنقود... هذه عادته كلما انتفخت حافظته، إنه ذو ثروة يسيل لها العاب، ولكنه يحاول دائما أن يهرب من ماله ومن الطرق التي يحاول بها البشر أن يستدرجوه بها، لاستثمار أمواله فيأتي إلينا.. ضارباً عرض الحائط بطرقهم وبماله وبالتيار، وما يزخر به من متدافعين.
والتفت إلى الشيخ شبراوي، فوجدته يلوك في فمه شيئاً وأمامه قدح القهوة (السادة) فابتسمت، كان إماما وخطيبا في أحد المساجد غير أن نفسه التي تسعى وراء المجهول أبت أن تتلقفها عيون المصلين الخاشعين باحترام، أبت أن يكون رائدا للجموع وهو أدرى بما في قلوبهم من ظلمات، وبما في قلبه هو من ظلمات قد تكون أشد حلكة، فلاذ بنا فراراً من نفسه ومن الجموع.
أما أنا... حقاً من أنا.. أنا غريب حتى عن نفسي، فلا تسلني من أنا، يكفيك أني واحد من الغرباء.
كنا جلوسا في تلك الليلة وقد اكتمل جمعنا ومضينا ننهل من الدخان الأزرق، يدخل صدورنا ويتصاعد مختلطاً بدمائنا إلى عقولنا فننسى، ننسى أننا عشنا يوماً في هذا التيار، وأننا كنا يوماً بين المتدافعين.
إننا ننظر إلى حلقات الدخان وقد تصاعدت من جوفنا وملأت المكان فمحى خلالها بقايا ما كان يحتوينا من الخضم الهائل، بقايا البغض والحقد الذي يترسب في أعماق مواكب النمل التي ما كان يهمها من دنياها غير لقمة العيش وجرعة الماء، إننا ننظر من شاطئنا إلى معركة الوجود كما نظر (نيرون) يوماً إلى حريقه، فتهمس الغبطة في نفوسنا: دعوهم في صراعهم، دعوا الذئاب تعوي، والقطيع يصرخ، والأفاعي تلدغ، والكلاب تنبح، والبوم ينعق، والصقور تنهش. دعوهم في حياتهم يعمهون.
وتأخذ النشوة الشيخ شبراوي مما اجتذبه في صدره ولاكه في فمه فينطلق في الغناء.. ولم يكن صوته حلوا ولم يكن كذلك قبيحاً، وإنما كان قويا. وأحسسنا أنه يغني لنا، بأنه يستمد ألحانه من دقات قلوبنا ومن أطياف الهدوء والسكون التي تحلق فوق رؤوسنا، يدفعنا الإعجاب به بل ويدفع بأبي خليل الهادئ الرزين إلى أن يفك عمامته، ويحيط بها وسطه، ويرقص ونصفق نحن، ثم يستخفنا الطرب فنردد مع الشيخ شبراوي أغانيه الذي يسره ما بعثه فينا من نشوة، وما أثاره فينا من مرح، فيمسك بعمامته ويقذف بها في الهواء.
ثم حدث شيء مفاجئ غادر بعثر الغرباء، التأم جمعنا، الجمع الغريب مرة أخرى ولكن، في فناء السجن هذه المرة.
ما للجمع يسوده غموض حائر متطفل؟ وما لأهل الشاطئ قد استكنت ألسنتهم في أفواههم؟ وما لنبع الهدوء الساحر الذي كان يسيل من وجوههم ينقلب غبرة يشع منها الوجوم؟ لم يكن السير عميقاً في خفائه، بل كان واضحاً وضوح أشعة الشمس الغاربة الحمراء وكأنها أنفاسها اللاهثة حين تحتضر، وهي تطل عليهم من بين القضبان.
كأن مواكب النمل قد ضاقت بهم وعز عليهم ما ينعمون به وحدهم، فأخذت القواقع من سلام الشاطئ، وأثقلتها بالقيود ثم أرسلتها إلى الأعماق.. إلى ما خلف معركة الوجود... إلى حيث لا يشعرون بدبيب المواكب وهي تمضي فوقهم، وكان دخانهم الأزرق هو السبب! لم يجرؤ واحد منا على أن يلوث قدسية ما نحن فيه من سكون، إنه الانتقال المفاجئ من الشاطئ الساكن إلى ضيق الأعماق.. إنه الليل حين يقبل - أول ما يقبل - على الإنسان الأول، وقد قضى يومه في نور بهيج. إنها الأشجان حين لا يحلو لها أن تداعب خيالنا إلا في ظلمة الليل.
أهناك رباط ما بين الأشجان والظلام؟ أم أن الإنسان حين يضيع بصره في حلكة المساء. يرتد إلى نفسه باحثاً منقباً فلا يجد إلا أشجانه التي تلوذ بأعماقه، ولا يلمح بارقة لأفراحه، فهي كالعطر الثمين تنعشه ساعة ما، ثم تمضي ولا تخلف وراءها أثراً؟
إنه الليل والظلام والأشجان هي ما تثير فينا الوجوم، وتدفعنا إلى السكون، غير أن ثمة شيئاً ما جعلنا ننسى أنفسنا ونصغ السمع إليه كان أبو خليل ينقر على (عكاز) "الأسطى" حنفي، ووجهه هادئ لا ينم عن شيء: هي الأحداث ترتفع وكأنها الجبال الشامخات وتنخفض وكأنها أعمق الوديان، ووجهه لا يتبدل فالابتسامة التي يخيل إليك أنها سوف تحتل وجهه ومع ذلك لا تفشيها ملامحه، هي هي، غير أن لحيته قد طالت وزاد سوادها، وكأنها طلاء فنان عربيد قد أحاط بوجهه، كان ينقر وكأن نقراته رعدة تمر بيده فيخفيها بتحريك أنامله، ولكنها ما لبثت أن اتخذت طابعاً نعرفه جميعاً، طابعاً يعرف الطريق إلى قلوبنا، فيسلكه حينما يشاء ليجدها تنتظره وترحب به.
فجعلته يضرب امرأة دخل عليها من نافذتها ذات يوم وقد اشتعلت النار في دارها، فوجدها تكاد تكون عارية... ثم يستقر بعد سنين السجن العجاف.
كنا نرهبه ونخشاه، فالحياة التي قضاها خلف القضبان كانت تضفي عليه هيبة وكأننا حين ننظر إليه، نرى وراء طلعته المتهالكة السجن الرطيب.
وجلسنا نحن.. نحن الغرباء في دنيا الناس.. نحن الهاربون من ضجة الحياة وصخب البشر، نحن الذين رأينا الناس يندفعون في موكب الحياة المجنون وكأنهم قطرات الرذاذ قد تحولت إلى تيار ماجن دافق ينخر في صلب الوجود.. آثرنا أن نركن إلى الشاطئ، وأن نحتمي بمرفئنا الهادئ وكأننا قوقع نهر أشفق عليه الموج، فدفعها في حنان وتؤدة إلى شاطئه. أهو جبنا منا..؟ أم عجز عن أن نتدافع بالمناكب سمه ما شئت وسمنا ما شئت فنحن لا يهمنا رأي البشر المتخبط في مجراه، يكفينا أننا اعتزلنا ما اصطلح الخلق على تسميته بالحياة، وما نسميه نحن بتناحر النفوس وقد تحولت من فراشات ترفرف في سمو إلى عش للزنابير أهاجها يوم قائظ فمضت تلدغ من تشاء ومن لا تشاء، وما نسميه تضارب العقول وقد عز عليها أن تسير إلى الأبد في مجراها السليم فمضت تتصارع في جشع، وتتلوى في أنانية، وما نسميه تحجر القلوب وكأنها قبيلة من أكلة البشر، لم تجد ما يقيم أودها فراحت تتربص بنفسها.
الأخ يلعق دماء أخيه، والأم تتخير لنفسها غذاء دسماً من بين أطفالها، نحن أهل الشاطئ، اخترنا هذا الحصن - وما هو بحصن - واجتذبنا صاحب المكان فهو، وإن كان ليس منا الا أنه كان يقف في مكانه من تيار الحياة لا يريم، وإذا تحرك فلينقض على هذا أو يعرقل ذاك أو يتراجع في خطى يائسة معانداً التيار، التيار الضخم الجبار، وكأنما كانت وقفته أو انقضاضه سكون وسط هذا الجو المشحون بالحركة والجنون، فلما تراكم الناس خلفه يدفعونه، ويرغمونه على المسير أثر أن ينزوي على الشاطئ، وأن ينفض يده من المعركة، وأن يحني رأسه للعاصفة، لا عن فكرة تدفعه إلى التسليم ولا عن عقيدة تلح عليه في الانطواء، وإنما عن جبن وعن عجز.
كان لنا نعم الملجأ، وحين عثرنا عليه ونحن تائهون بين رمال الشاطئ تلقفناه تلقف الملهوف، واتخذنا تلك القوة المتداعية مركزا لنا ومقرا، فهي بصاحبها و (صبيه) أحمد الفتي الذي لم يتجاوز العشرين بوجهه الصبوح وشعره المشعث في فوضى محببة، ولذعاته عن طربوش (المعلم) عمر وهو يهمس بها لنا فترتفع قهقهتنا في ضحك صاف حبيب، حبب إلينا المكان، وربطنا إليه برباط لا تنفصم عراه.
ومضيت أتطلع إلى الباقين من الرفقاء - إلى الغرباء المتظللين بهدوء الشاطئ وسكونه، كان الجالس على يميني (الأسطى) حنفي بجثته الضخمة وشاربه، المفتول فهو محدثنا اللبق خاصة حين يداعب شاربه.
وانفجر الجمع الغريب، رقص الشيخ شبراوي وصفق حسن بك وقهقه المعلم عمر، وتمايل (الأسطى) حنفي وانطلقنا في غناء مرح صاخب.
إنها الأعماق حقاً، ولكننا غرباء بعيدون عن صراع القطيع وحريق الرغبات!
نحن الهاربون من الحياة نحيا الحياة التي وإن كان يمجها المتزاحمون، ويحتقرها المتصارعون النهمون؛ وإنما هي حياتنا.. نحن أحرار فيها، نحياها في الشاطئ الهادئ الساكن، أو في القاع المظلم الرطيب.