المدمن كيف نفهمه ؟ لنساعده
أ.د. محمد المهدي
لقد كتبت هذه الصفحات وأنا اجلس بين المدمنين في وسط علاجي أعايش فيه بشكل يومي أعداد كبيرة منهم لعدة سنوات , وقمت بنقل مشاهداتي اليومية كما هي لتكون قريبة من الحقيقة الواقعية , ولم أهدف إن تكون مرجعا علميا مرتبا حسب المنهجية العلمية التقليدية بل لقطات لجوانب محددة وعفوية في بعض الأحيان علها تساعد في فهم طبيعة المدمن وبالتالي مساعدته .
.
للمدمن مواقف متباينة مع الغيرة تختلف من مادة لأخرى ومن مرحلة لأخرى فمدمن الهيروين مثلا تجده قليل الغيرة علي شرفه وخاصة حين يتعمق في الإدمان وفي لحظات انقطاع الهيروين عنه .
ولست انسي ذلك المدمن الذي نفذ ماله و أحس بأعراض انقطاع المخدر فذهب إلى أصدقائه فساوموه علي زوجته , فذهب و أحضرها معه بزعم زيارة زوجة أحد أصدقائه وعندما دخلت الزوجة تركها بين أيدي أصدقائه واخذ نصيبه من الهيروين وراح في غيبوبة طويلة أفاق بعدها علي زوجته وقد مزقت الذئاب البشرية جسدها .
وكثير من مدمني الهيروين يستخدمون زوجاتهم للترويح بهدف الحصول علي المال اللازم لاستمرار الإدمان وبعض المدمنين لا يجد غضاضة في إن يدعو زوجته للجلوس مع أصدقائه الرجال أثناء تعاطيهم المخدرات علي الرغم من إن هذا الأسلوب مستنكر في المجتمع الذي يعيش فيه المدمن .
وهو لا يغضب إذا وجد أحدا يغازل زوجته حتى في حضوره , ولا يشعر بالاشمئزاز حين يجلس في البيت بلا عمل ويترك زوجته تخرج للعمل وتتعرض للمضايقات والمتاعب خارج المنزل إما مدمن الشراب (الكحول) فهو شديد الغيرة بشكل مرضي حيث يكثر شكه في سلوك زوجته ويعتدي عليها بالسب والضرب لأتفه الأسباب بسبب تلك الغيرة .
وتزداد هذه الغيرة حدة حين يفقد هذا المدمن قدرته الجنسية بسبب تعاطي الشراب حيث يصبح غير قادر علي إشباع حاجة زوجته لذلك يعتقد أنها تأخذ حاجتها من شخص آو أشخاص آخرين ..
وهذا الشعور بالعجز والغيرة يجعلانه شديد العدوانية علي كل من حوله ودائما يسئ تفسير آية إشارة غير مقصودة أو أي حدث عابر وربما يؤدي به ذلك إلى الاعتداء الجسدي أو القتل تحت تأثير هذه المشاعر الضاغطة .
والمدمن يمكن إن يعتدي علي محارمه وخاصة وهو تحت تأثير الشراب أو المخدر , فينتهك حرمة أمه أو أخته أو ابنته .. وإذا شعر بالذنب فانه يحاول قتل هذا الشعور بالذنب بمزيد من التعاطي ..
ويحاول قتل الشعور بالخجل لدي من اعتدي عليها بان يعرض عليها التعاطي معه حتى يقتل المشاعر السلبية التي نشأت لديها نتيجة انتهاكه لحرمتها .
المدمن ورموز السلطة المدمن لا يحترم أباه ولا أستاذه ولا رئيسه في العمل , ولا يحترم الشخصيات الاجتماعية ذات التأثير التوجيهي العام , وإذا حدث ووصف أحد هذه الرموز بصدق فانه يخلع عليها كل الصفات السلبية وهو إن اظهر بعض علامات الخضوع أو الموافقة لهذه الرموز التي تمثل السلطة في حياته فإنما يفعل ذلك كمناورة لتجنب العقاب آو للحصول علي شئ يريده , ولكنه في داخل نفسه لا يحترم أحد ولا يقدر أحد .
وفي تعبير علم النفس نقول إن الصورة الوالدية مضطربة لدي المدمن .
وهذا الموقف يجعل المدمن في صراع دائم مع والده ووالدته ورئيسة في العمل , وكل من له سلطة عليه وهو يواجه هذا الصراع بالمناورة والخداع والكذب و أحيانا بالعنف . وهو في الغالب لا يخشي العقاب ولا يخيفه التهديد ولا يستفيد من التجارب السابقة .
ثم يعمم هذا الموقف ليشمل عدم احترام القانون وعدم احترام القيم والأخلاق السائدة في المجتمع , بل وعدم احترام الدين ورموزه , وهذا يجعل المدمن في موقف غاية في الخطورة لأنه سوف يمحو كل الرسائل الإرشادية التي تصله من كل هذه الرموز , ولذلك يبقي علي إدمانه وعلي سلوكه غير المسئول أطول فترة ممكنة ليس هذا فقط , بل إن المدمن كثيرا ما يحتقر هذه الرموز ويصفها بالنفاق والكذب والسذاجة , وهو بذلك الاحتقار والتسفيه لرموز السلطة في حياته يقطع الطريق تماما أمام تلقي أي رسالة علمية أو توجيهية .
فهو لا يتأثر كثيرا بالوعظ أو الإرشاد أو التوجيه مهما تكرر علي مسامعه , فكأنما تنقش علي الماء . وهذا الموقف يصيب المحيطين بالمدمن بإحباط شديد فهم كثيرا ما ينصحونه فيفاجئون بأنه نسي النصيحة ربما بعد ساعات و أحيانا بعد دقائق وكأنها لم تكن , وهو ينطبق عليه المثل بان الكلام يدخل من آذنه اليمني ويخرج مباشرة من آذنه اليسرى, بل إن أحد أساتذتنا كان يجزم مازحا بان الكلام لا يدخل آذن المدمن بالمرة بل يرتد عند وصوله أو هذا الموقف السلبي الجاحد لرموز السلطة كنا نراه بوضوح في علاقتنا بالمدمن كفريق علاجي , فبعضهم مثلا كان يقضي معنا سنة آو اكثر ويبذل معه كل أعضاء الفريق العلاجي جهدا خارقا لمساعدته في المراحل المختلفة , ومع هذا تجده كثير الانتقاد لهؤلاء الناس الفذين ساعدوه وكثيرا ما يسخر منهم ويقلل من شأنهم ويشكك في نواياهم , وربما يسبهم آو يعتدي عليهم إذا وقفوا مرة في تحقيق رغبة من رغباته .
وليس من السهل عمل علاقة عميقة ودائمة مع المدمن , وليس من المتوقع أن تجد منه ذلك الاحترام العميق بين المريض والطبيب الذي تجده مع الحالات المرضية الأخرى ولذلك تكثر احتمالات الطرح المضاد ضد المدمن فتجده مرفوضا من بعض أعضاء الفريق المعالج كما هو مرفوض من الوالد ومن المدرس ومن الكثير من المحيطين به وهذا يدفعه لمزيد من الرفض المضاد والعناد والعدوان علي كل من حوله , ولا يقطع هذه الدائرة الخطيرة إلا معالج متمكن يستطيع اختراق حواجزه بطريقة عالية من الحب والاهتمام تستمر –رغم الظروف- لمدة طويلة حتى يتأكد المدمن انه مازال هناك من يهتم به فكيف من عدوانه علي رموز السلطة وتبدأ عملية التصالح .
المدمن وغياب المعني المدمن لا يشعر بمعني عميق في حياته , فهو لا يشعر بمعني كلمة هدف يسعي إليه ويكافح من اجله , ولا يشعر بمعني الأبوة أو الأمومة أو الأخوة أو الحب الحقيقي آو الصداقة الحقيقة ..
بل إن كل شئ لديه سطحي يتغير بسهولة وسرعة كأنه لم يكن . وهذه حالة أشبه بالفراغ الوجودي أو عصاب اللامعني الذي وصفه فيكتور فرانكل (1930) , واهم أعراض هذا العصاب الشعور بالملل والضجر وعدم الرضا بآي شئ . وقد لاحظنا هذه الأعراض كثيرا في الوسط العلاجي حيث انه كان المدمنون يشكون كثيرا من الملل ورتابة الأحداث والأنشطة , وان كل شئ يسير في روتين ممل ..
رغم إن هذا الوسط العلاجي يتميز بالتغيير المستمر والحركة الدائمة . لاحظنا إن المدمن أحيانا يتحمس لعمل شئ ما ويبدو صادقا في حماسه , ويشعر من يراه في هذه الحالة انه يفعل شيئا ولكن سرعان ما ينطفئ هذا الحماس ويتوقف نشاطه ويعود إلى ما كان عليه من السلبية والتراخي , وكان أحد المدمنين يعبر عن هذه الحالة بقوله : أنني اشعر أنني "انطفأت" فكأنه مصباح كهربي أضاء فجأة بنور مبهر ثم احترق .
وهذا الشعور بالملل له دور كبير في اضطراب حياة المدمن حيث انه لا يستطيع الاستمرار في عمله مدة طويلة فتجده كثير الاستئذان كثير الغياب إلى أن يفصل من عمله في النهاية .
وهو أيضا يمل العلاقات الأسرية والعلاقة الزوجية ويفضل عليها علاقات "الشلل" والأصدقاء لأنها تتيح له التغيير المستمر . وهذا الشعور بالملل له علاقة قوية باستمرار الإدمان فالمدمن يمل مشاعره ويحاول تغييرها بالمخدر من وقت لآخر , فهو يلعب بمشاعره ويستمتع بذلك رغم ما يعانيه من آلم التغيير .
وغياب المعني يجعل كل شئ لدي المدمن مثل أي شئ فلا شئ يستحق التضحية ولا العناء (باستثناء المخدر) .. وكل شئ ذو قيمة لدي بقية الناس يبدو تافها وسخيفا لدي المدمن .
ويتبع هذا شعور غامض بعدم الرضا فهو لا يرضي عن أي شئ في هذه الحيلة ولا يتذوق طعم السعادة الحقيقية رغم انه أكثر الناس بحثا عنها . ومما يزيد هذا الشعور بالتعاسة في الحياة وعدم الرضا لاضطراب حياة المدمن وعلاقاته مع أفراد أسرته ومع زملائه في العمل ومع كل الناس مما يجعله يشعر بان الحياة عبء ثقيل وكثيرا ما تراوده فكرة الانتحار .
وغياب المعني يجعل المدمن أشبه بجزيئات منفصلة لا يربطها إطار عام قوي فهو يتصرف لحظيا طبقا للموقف الذي يواجهه دون أي اعتبار للماضي أو المستقبل فكان اللحظة الحاضرة هي كيان مستقل بذاته .
والمدمن ليس لديه عقيدة تعطي لكل شئ معني وهدفا لذلك فهو يفتقد معني الحياة ومعني الموت ومعني ما بعد الموت ويفتقد الإطار المرجعي الذي يضع الأمور في نصابها . والمدمن يهرب من هذا الموقف الصعب بالانغماس في لذات سطحية يحصل عليها من ممارسة الجنس آو تعاطي المخدرات معتقدا بان هذه الأشياء ستروي عطشه , ولكنه يفاجأ انه أصبح أكثر عطشا وأكثر جوعا للمعني فيحاول الانغماس أكثر وأكثر ..
وهكذا حتى يغوص في أعماق الضياع .